1 فبراير 2011

جذور أزمة النظام المصري
الصحفي عدنان حطاب

ما يجري في مصر هو حركة شعبية خالصة هدفت للتخلص من نظام أصبح مرفوضا أن يستمر في الحكم ساعة واحدة بعد أن جربه شعبه لثلاثة عقود .
هذه الثورة الحقيقية التي تجاوزت ثورة الضباط الأحرار لتصبح ثورة الملايين الأحرار والتي لا يستطيع احد أن يدعي انه مفجرها او مهندسها إنها ثورة حقيقية شاملة لا فضل لفصيل او شخص في إشعالها بل قد يكون التونسي البوعزيزي وفعلته الملهمة وما نتج عنها في تونس قد أشعلت برميل البارود المحتقن أصلا في مصر .
واليوم والثورة وهي تجتاح كافة المحافظات المصرية باعتبارها نتاج تراكمات عدة ليس اقلها المشاكل الاقتصادية وتحويل مصر من بلد صناعي وزراعي إلى دولة تتسول المساعدات من الولايات المتحدة وغيرها وصولا إلى التهميش الكبير للدور المصري الإقليمي والدولي في عهد هذا النظام حيث أصبحت دول صغيرة لا يتعدى سكانها الآلاف لها من الثقل في السياسة الدولية يزيد عما لمصر مبارك بكثير.
لقد اتخذت مصر منذ عهد السادات وبعد حرب أكتوبر تشرين أول 1973 اتجاها استسلاميا تنازليا تجاه إسرائيل وانعزالا متعاليا تجاه القومية والعروبة بدأ ذلك بما يسمى بفك التداخل بين القوات المصرية والإسرائيلية في سيناء وغرب القناة في حادثة الدفرسوار الشهيرة وبمحادثات الكيلو 101 انتقل بعدها إلى القبول بالمحادثات المكوكية غير المباشرة التي قادها وزير الخارجية الأمريكي في حينها هنري كيسنجر وصولا في التحول والانخراط بعلاقات تبعية واضحة للولايات المتحدة والغرب . ومنذ محاولة السادات الابتعاد عن المعسكر السوفيتي في حينها وقبل الحرب قام بترحيل الخبراء العسكريين الروس رغم انه حارب بأسلحتهم وحقق نصرا بتدريبهم مضافا إلى قدرة وعزيمة الجندي المصري . لقد أريد لهذا النصر أن يكون محدودا بما يكفي ليحول حرب 1973 من حرب تحرير إلى حرب تحريك لقد رغب السادات أن يبرهن على مقولته إننا نحارب معتمدين على أنفسنا والصحيح أن الحرب كان ينتظرها بشوق ولهفة جيش مصر العظيم للانتقام مما تعرض له في ما أطلق عليه نكسة حرب 1967 واحتلال إسرائيل لسيناء في هزيمة أرادها الأعداء مذلة وحولتها الإرادة المصرية إلى كبوة عندما قرر النهوض ورفض الهزيمة وزحفت الجماهير بعفوية ترفض تنحي القائد جمال عبد الناصر رغم الخسارة الفادحة فقد كانت ثقة مصر بقائدها الأساس التي بني عليه نصر أكتوبر وما سبقه من حرب استنزاف استمرت ردحا من الزمن.
لذا شاهد العالم كيف اندفع الجيش المصري محطما خط بارليف والحصون الإسرائيلية في ملحمة عربية خالدة شارك فيها الجيش السوري وجيوش عربية أخرى.
لقد كان لأمريكا والغرب اليد الطولى في مساعدة وإنقاذ إسرائيل في الحرب عبر الجسر الجوي ليتم إعادة تسليحها وفرضها كدولة قوية في المنطقة .
ومن وقتها استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية والتي لعبت دورا بارزا في تحويل مصر من دولة مواجهة مع إسرائيل إلى دولة تمرر ما يسمى بالسلام وتخترق الصف العربي والإجماع العربي على الحق في فلسطين مبددا بالهواء لاءات الخرطوم الشهيرة وهي لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع إسرائيل .
وتمهيدا للتحول في السياسة الخارجية والداخلية لمصر بدأ السادات يتحف الأمة بعباراته الممجوجة من أن 99%من الأوراق في يد أمريكا وأنها تقدم لإسرائيل من رغيف الخبز للطيارة وانه لا قبل له بمحاربة أمريكا مبررا طريقه الجديد بتزامن مع مما بدأه إعلامه بإطلاق ألقاب عليه بطل الحرب والسلام ورئيس دولة العلم والإيمان وعمليا على الأرض قام بقمع المعارضة المصرية بشدة منفذا سياسة انعزال عن الأمة وتدمير لمقدرات ثورة يوليو الخالدة عبر دعمه لطبقة المتاجرين والسماسرة باستغلال شعب مصر ومقدراتها حيث تم تصفية القطاع الحكومي وترك البلد نهبا لاستثمار بعيد عن توفير الحاجات الأساسية للمواطن المصري تحت يافطة الانفتاح التي رفعها .وقامت حكومته برفع المواد الغذائية والمحروقات مما أدى لثورة عارمة عرفت بثورة الخبز في شهر يناير من العام 1977م ورغم تراجع النظام عن قراره رفع الأسعار إلا انه استمر بسياساته الاقتصادية التي حولت مصر رهينة للبنك الدولي والشركات الكبرى ورأس المال الأجنبي كما واصل سياساته القمعية واللاديمقراطية مما أدى في النهاية إلى استهداف رأس النظام وأقصد الرئيس السادات الذي سقط قتيلا على يد ضباطه في حادثة المنصة يوم 6 أكتوبر عام 1981م .
قبل حرب أكتوبر كانت مصر دولة قائدة في العالم العربي تقف أمام توسع الاستعمار في المنطقة وتهتم بكرامة شعبها وأمتها واستطاعت زمن عبد الناصر كانت مصر رمزا يشعر المواطن العربي من محيطه إلى خليجه بالعزة والكرامة وحافظ عبد الناصر على مكانة إقليمية في إفريقيا إضافة إلى وزن وثقل عالميين فاق أحيانا قدرة مصر على تحمل هذا الدور.
ظل الأمر كذلك حتى وفاة عبد الناصر وادعى السادات انه على خطاه لكن سرعان ما ظهر التحول الواضح في سلوك واتجاه السادات الذي انتهى بزيارة دولة الاحتلال وإلقاء خطاب في الكنيست وسط تشجيع أمريكي رغم المعارضة العربية الشعبية العامة والرسمية المعلنة لذلك.
بعد انتهاء عصر السادات وسقوطه برصاص أفراد من الجيش المصري في حادثة المنصة الشهيرة كما مر وبنجاة حسني مبارك من الموت في تلك الحادثة وتسلمه دفة الحكم لم يتعظ ولم تتغير او تتبدل سياساته رغم أن هناك في الأمة العربية ممن أذهله التنازل الساداتي والاعتراف بإسرائيل قال إن مبارك لا ذنب له بالاعتراف بإسرائيل وانه غير مسؤول عما اقترفه سلفه وان من الواجب إعطائه الفرصة ليغير مسار مصر ويعيدها للحضن العربي لتقف مع أمتها إلا أن الرجل استمر على نهج سلفه السادات متشجعا بانفراط عقد المعارضة المحلية والعربية لنظامه خاصة بعد أن أدخل صدام حسين العراق في حرب مواجهة غير مبررة مع إيران التي كانت للتو تطرد ثورتها الإسلامية السفير الإسرائيلي وتهدي مقره لمنظمة التحرير الفلسطينية كل ذلك بحجة الدفاع عن البوابة الشرقية للأمة العربية. والغريب أن العراق قد تلقى دعم من دول كانت بالأمس حليفة لنظام الشاه إيران وان النخوة القومية قد استحضرت ضد الثورة الإسلامية في إيران بينما غابت هذه النخوة يوم كان الشاه حليف إسرائيل وشرطي الخليج الحريص على المصالح الأمريكية والغربية في سدة الحكم . يومها لم يكن سكان إيران فرسا ولم نكن أيامها بحاجة لقادسية جديدة .
لكن ما أن وصلت حرب صدام واقصد حرب الخليج الأولى إلى طريق مسدود وتوقف صوت المدافع في نهاية العام 1988م وإذا بالعالم العربي يفاجئ بصيف العام 1990م بدخول القوات العراقية باحتلال الكويت في جريمة حولت تهديدات صدام بحرق ثلثي إسرائيل بالأسلحة الكيماوية إلى تدمير وحرق للدولة الجارة والشقيقة المسالمة الكويت بذرائع ومبررات لم تفلح في إقناع احد وكانت النتيجة انقسام مذهل في الشارع العربي وتدمير لمقدرات الأمة وثرواتها وقد تضاعف الأمر باستقدام الجيوش الأجنبية للمنطقة وترك شرخ وكراهية بين شعوب وأنظمة حكم عربية بالكاد نكون قد شفينا منه حتى اليوم .
ومنذ عقد الثمانينات بدت الدول العربية بالتنكر لمقررات قمة بغداد بقطع العلاقة مع النظام المصري طالما أقام علاقة مع إسرائيل أعادت هذه الدول علاقاتها التي قطعتها مع النظام المصري إما لنية هذه الدول فعل ما فعله النظام من مصالحة مع إسرائيل او نتيجة لظروف موضوعية كتلك التي وجد فيها رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات نفسه فيها عندما ضايقته المعارضة المدعومة من سوريا وقامت بترحيله من طرابلس لبنان التي كان قد وصل إليها بعد مغادرته الشهيرة لبيروت بعد حصارها من قبل إسرائيل – أراد أبو عمار أن يوجه رسالة إلى سوريا أن لديه البديل فغازل نظام حسني مبارك وكذلك فعل صدام حسين عندما رغب الأخير بدعم عسكري وبشري مصري في حربه ضد إيران وهكذا لحقت الحظيرة العربية بالثور المصري الفار بدلا من إعادته إليها . ومع قيام الاتحاد العربي الذي أنشأته دول العراق والأردن واليمن الشمالي ومصر في العام 1989م - والذي انفرط عقده بعد غزو العراق للكويت - كل ذلك أعاد للنظام المصري موقعه القديم دون أن يتراجع عن تطبيعه للعلاقات مع دولة الاحتلال .
لقد تجاوز النظام المصري تضحيات مصر والأمة العربية في ثلاثة حروب متجاهلا دماء آلاف الشهداء والجرحى والدمار وفقدان فلسطين وأراض عربية أخرى وها هو قد أعيدت له الشرعية وتسلل إلى الصف العربي واضعا قدما في إسرائيل وأخرى في العالم العربي بل على العكس قام بجر الآخرين وتشجيعهم للقدوم إلى الوحل السلمي الذي تجلى في قيام مسئولين إسرائيليين بزيارات إلى المغرب وتونس ثم تشجيع الأردن ومنظمة التحرير للسير في ذات الطريق وهكذا نقل النظام فيروس السلام المزعوم للجسد العربي في إقامة علاقات مع إسرائيل .
لقد وصل الأمر ذروته في اصطياد منظمة التحرير الفلسطينية في فخ السلام المزعوم في مؤتمر مدريد ثم في اتفاق أوسلو عام 1993 وحتى الآن . لقد أكمل نظام حسني مبارك في مصر ما بدأه سلفه السادات في توسيع دائرة التفريط والتنازل عن الحقوق العربية والفلسطينية عبر الاعتراف بإسرائيل وتسويق أوهام السلام مما ادخل القضية الفلسطينية في متاهات لم تخرج منها حتى الآن .
واليوم إذ يقوم أحرار مصر وشبانها بالعمل على تغيير النظام الذي يحاول أن يبدل جلده عبر إجراءات لا تنطلي احد عبر تعيينات لوزراء او إطلاق وعودات والإعلان بأن هناك مطالب مشروعة للمتظاهرين في محاولة لاحتواء ما يجري من رفض مطلق لاستمرار النظام بالحكم.
إن المخاض عسير وأن التخلص من المرض المزمن الذي ينخر في الجسد المصري لا بد له من عملية جراحية تسيل منها الدماء ثمنا للشفاء من مرض مزمن استمر 30 عاما لم تفلح معه المسكنات ورغم مئات الشهداء وآلاف الجرحى والدمار والخراب الذي يلحق بأم الدنيا مصر. فأن الأمر يستحق التضحية ويستحق الصبر على الشدة حتى طلوع فجر حرية مصر وشعبها ومعها الأمة العربية .
إن قلق وانزعاج الغرب والولايات المتحدة أمر مشروع لأن من خدمهم ل 30 عاما يحتضر اليوم لذلك عمدوا إلى تحريك بعض صغارهم ممن يدعون تمثيل شعب مصر او ليقدموا الوعود بالإصلاح والديمقراطية وكأن 30 عاما في الحكم لم تكن تكفي لذلك.
قيام الأعلام المصري المرتبط بالنظام في نزعه الأخير بالكذب وتصوير الثورة على أنها ثورة لصوص وقطاع طرق رغم أنها ثورة الكرامة المصرية والشرف العربي وان أتباع الحكم من اللصوص والفارين من السجون هم من يفتعلوا الجرائم والعدوان على الشعب كما ثبت ذلك في أكثر من مكان عندما اعتقلت الجماهير أمناء شرطة ممن روعوا الآمنين وقاموا بأعمال سلب ونهب .
النظام وقبل إعلان وفاته يحاول ضرب الطينة بالعجينة في استعراض فاشل للقوة باستخدام طائرات عمودية او مقاتلة فوق المتظاهرين في سماء القاهرة تارة وفي استعراض لاجتماعات رموزه بتعيينات وتشكيل وزارات وتكليف وزراء موهمين الشارع المصري والعالم وكأن النظام لا يزال حيا مع أن وفاته أعلنت منذ28 يناير وبعد أن فشلت كل أدواته من منع تجول أو استخدام للعنف في قمع الثورة .
وها هو النظام وهو يطلق آخر رصاصة في جعبته إذ يحتال بإطلاق الوعود بالإصلاح والحوار مع المعارضة فان شرفاء ميدان التحرير وباقي المدن المصرية لن ينخدعوا وأنهم لن يرضوا إلا برحيل النظام بكل رموزه وأزلامه التي نقلت الطائرات الخاصة عددا كبيرا منهم لخارج مصر.
السخافة الغربية تبدو في النصح للنظام وبعد أن تداعى بأن يدخل إصلاحات متناسين انه فات المعاد وان الأمس ليس اليوم والغد سيكون مختلفا عن اليوم . وبعض الأعلام المشبوه اخذ يصور أن نظام مبارك يسقط لأنه رفض الانصياع للشروط الأمريكية او للبنك الدولي قاصدين بذلك إضافة مسحة من الوطنية والشرف على هذا النظام لكن كل مساحيق التجميل لن تستطيع أن تخفي عيوب الوجه القبيح إن ذلك لن يفيده إلا بما أفاد الفرعون بعد بغيه وعدوانه الذي قال إذا أدركه الغرق الآن آمنت انه لا اله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل واني مِنَ الْمُسْلِمِينَ.... الآن ؟؟؟؟ !!!! وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين .
وفي النهاية فأن كل المؤشرات تؤكد أن لا تراجع وان اجتماعات قادة جيوش إسرائيل وأمريكا والغرب وكل مكالماتهم الهاتفية مع بعضهم او مع زعماء المنطقة لن تثني شعب مصر عن المضي في طريقه بإزالة ركام النظام كاملا وهو ما برز في المظاهرات المليونية التي خرجت بكل مدن القطر المصري.
ولن ينسى هذا الشعب العظيم أن يؤسس لدولة جديدة تستلهم روح جمال عبد الناصر دون أن تسمح لشخص البقاء في سدة الحكم أكثر من فترتين مهما كانت فضائله فإذا كانت السلطة المطلقة مفسدة مطلقة فان تشبث الحاكم بكرسيه بعد رفض الشعب له تعد كارثة مطلقة وأن شعب مصر يحتاج اليوم إلى دولة لا تحارب طائفة او جماعة.
إن هناك حاجة لدولة تعيد إلى القومية العربية عصرها الذهبي لكن لا تعادي غير العربي وتتماهى مع الإسلامي دون أن تعادي غير الإسلامي من أتباع الديانات والاثنيات القومية أو الدينية في الوطن العربي – دولة تستوعب الجميع وتقوم على أساس المواطنة والمشاركة السياسية والتداول السلمي للسلطة بطريقة ديمقراطية نابعة من مصلحة الوطن لا مصلحة أعدائه.