17 سبتمبر 2008

العرب من وجهة نظر يابانية !

هذا الموضوع منقول ... يتم إعادة نشره للأهمية

وقفات مع كتاب (العرب.. وجهة نظر يابانية)
لأستاذ الأدب العربي المعاصر بجامعة طوكيو (نوبو أكي نوتوهارا)
منشورات دار الجمل ألمانيا ط1، 2003م
محمد عبد الرزاق القشعمي

بعد أن امضى أكثر من أربعين عاما في سفر دائم بين العواصم العربية والأرياف والبوادي، إذ بدأها طالبا في قسم الدراسات العربية بجامعة طوكيو للدراسات الأجنبية ثم مدرسا للأدب العربي المعاصر في الجامعة نفسها.
تنقل بين العواصم والأرياف من القاهرة والصعيد إلى دمشق وباديتها إلى اقصى المغرب العربي إلى اقصى مشرقه حيث اليمن وحضرموت..
كوّن صداقات وعلاقات واسعة أحبهم وأحبوه فقال: (أربعون عاما تدفعني دفعاً لأقول بعض الأفكار والانطباعات عن الشخصية العربية المعاصرة، تجربتي تقودني إلى هذا الكتاب وعلاقتي الحميمة مع الشخصية العربية تشجعني، واعترف ايضا ان بعض أصدقائي العرب ألحوا عليّ أن أكتب بالعربية شيئا مما أعرفه على تواضعه وها أنا ذا افتح عيني على مداهما لأرى لا بعين المراقب المقارن، ولكن المراقب المحب الحريص، المراقب الذي أعطى الشخصية العربية حتى الآن أربعين عاماً من عمره).
أول ما يصدم السائح أو أول ما ينطبع في ذهن الزائر لبلد ما هو سائق الأجرة وتعامله.. فها هو يصف زيارته الثانية للقاهرة قبل ثلاثين عاماً (1974م) فيقول:(.. حتى في التاكسي يواجه الراكب اضطهاداً فالسائق يختار الراكب حسب المكان الذي يريد الذهاب إليه، ويرفض أن يقل الشخص الذي لا يعجبه شكله أو المسافة التي سيقطعها ، شيء لا يصدق عندنا في اليابان.
باختصار التوتر يغطي الشارع، توتر شديد تتوقع ان ينقطع في أي لحظة، هذا التوتر يجعل الناس يتبادلون نظرات عدوانية ويزيد توتر المدينة نفسها أكثر فأكثر.
وفي نقطة أخرى.. عندما يرى الزحمة والطوابير الطويلة أمام مبنى قسم الهجرة والجوازات.. والموظفون الحكوميون لا يبالون بالناس..
كان الموظف الحكومي ينهي الأمر بكلمة واحدة في نهاية الدوام: بكرة، وهذا يعني ان على ما بقي من الطابور أن يستأنف الوقوف نفسه في صباح اليوم التالي، ويقول: (هناك استثناء لمن يعرف أحد الموظفين عندئذ يتم انجاز المعاملة بسرعة كبيرة).
ويقول إنه كثيراً ما يسمع في الراديو والتلفزيون ويقرأ في الجرائد كلمات مثل: الديمقراطية، حقوق الإنسان، حرية المواطن، سيادة الشعب، وكان يشعر وهو يتابع سماع تلك العبارات أن الحكومة لا تعامل الناس بجدية بل تسخر منهم وتضحك عليهم.. ويتساءل: هل يستطيع المرء أن يتجاهل الصلة القائمة بين هذا الاسلوب الذي يستغبي الشعب والتوتر الذي يسيطر على جموع الناس العاديين؟
ويقول إنه زار الكثير من العواصم العربية فهل تختلف تلك العواصم العربية عن القاهرة.. هو لا يستطيع أن يعقد مقارنة أو لا يريد.. فهذا ليس في استطاعته ولكنه يقول: إن الناس في شوارع المدن العربية ليسوا سعداء وليسوا مرتاحين،.. سمع صرخة مازالت مدوية في أذنه في هذا الجو الخانق.. فها هو يتلمس جذور تلك الصرخة وأسبابها.. ويقدم بعض النقاط التي تسم الشخصية العربية المعاصرة.. من خلال ما لاحظه عند إقامته في البلدان العربية بصورة عامة.. فهو يؤكد انه اعطى القضية العربية عمره كله فمن حقه أن يقول شيئا مباشراً...
أول ما يلاحظه في المجتمع العربي هو غياب العدالة الاجتماعية.. ( وهذا يعني غياب المبدأ الأساسي الذي يعتمد عليه الناس، مما يؤدي إلى الفوضى، ففي غياب العدالة الاجتماعية وسيادة القوانين على الجميع بالتساوي يستطيع الناس أن يفعلوا كل شيء..
تحت ظروف غياب العدالة الاجتماعية تتعرض حقوق الإنسان للخطر، ولذلك يصبح الفرد هشا ومؤقتا وساكنا بلا فعالية لأنه يعامل دائماً بلا تقدير لقيمته كإنسان..).
ويستغرب لماذا يكثرون من استعمال كلمة الديمقراطية وهم لا يستعملونها بل يفعلون عكسها تماما، فلهذا نجده يقول: (عندما تغيب الديمقراطية ينتشر القمع، والقمع واقع لا يحتاج إلى برهان في البلدان العربية..
فعل سبيل المثال الحاكم العربي يحكم مدى الحياة في الدولة.. ولذلك لا ينتظر الناس أي شيء لصالحهم.. وكمثال آخر فإن معظم الصحف العربية تمنع من بلد إلى بلد والرقابة على الكتب والمجلات.. هناك مئات الكتب العربية وغير العربية ممنوعة في معظم البلدان العربية وخاصة الكتب التي تعالج الحقائق اليومية الملموسة للناس).. ويذكر أنه عندما كان يعد كتاباً باليابانية عن مصر لم يجد كتاب جمال حمدان (شخصية مصر) لأنه كان ممنوعا من مصر رغم أنه يعتز بمصريته، ويذكر أيضا من الكتب الممنوعة (الخبز الحافي) لمحمد شكري و (الثالوث المحرم) لأبي علي ياسين.. ويعلق قائلاً: (كل هذا يعني غياب حرية الرأي وحرية الكلام، عندنا في اليابان نقول عندما لا نستطيع أن نتكلم بحرية: عندما افتح فمي فإن هواء الخريف ينقل البرد إلى شفتي، والعربي عندما لا يستطيع ان يصرح بما في نفسه عليه أن يقول تحت لساني جمرة).
ويقول في مقدمة كتابه (.. أعتقد أن القمع هو داء عضال في المجتمع العربي ولذلك فإن أي كاتب أو باحث يتحدث عن المجتمع العربي دون وعي هذه الحقيقة البسيطة الواضحة فإنني لا أعتبر حديثه مفيدا وجديا، إذ لابد من الانطلاق بداية من الإقرار بأن القمع بكافة أشكاله مترسخ في المجتمعات العربية).. في مجتمع تغيب عنه العدالة ويسود القمع وتذوب استقلالية الفرد وقيمته كإنسان يغيب أيضا الوعي بالمسؤولية، ولذلك لا يشعر المواطن العربي بمسؤولية عن الممتلكات العامة مثل الحدائق العامة والشوارع ومناهل المياه ووسائل النقل الحكومية والغابات باختصار المرافق العامة كلها، ولذلك يدمرها الناس اعتقادا منهم انهم يدمرون ممتلكات الحكومة لا ممتلكاتهم هم.. وهكذا يغيب الشعور بالمسؤولية تجاه أفراد المجتمع الآخرين).
ثم يقارن المجتمع الياباني بالمجتمع العربي بعد أن يعرض تجربة اليابان الصعبة والمريرة فيقول: (لقد سيطر العسكريون على الإمبراطورية والسلطة والشعب، وقادوا البلاد إلى حروب مجنونة ضد الدول المجاورة وانتهى الأمر بتدمير اليابان من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية الحرب العالمية الثانية، هذا حدث في تاريخنا القريب ودفع الشعب الياباني ثمنا باهظا ولكننا وعينا خطأنا وقررنا أن نصححه فأبعدنا العسكريين عن السلطة وبدأنا نبني ما دمره القمع العسكري لقد عانى اليابانيون كثيرا لكي يخرجوا من الخطأ واستغرق ذلك أكثر من عشرين سنة.
ومن المعاناة نفسها تعلمنا دروسا أظن أن المواطن الياباني لن ينساها، تعلمنا أن القمع يؤدي إلى تدمير الثروة الوطنية وقتل الأبرياء ويؤدي إلى انحراف السلطة عن الطرق الصحيح والدخول في الممارسات الخاطئة باستمرار (...) المهم أننا وعينا خطأنا أولا ثم عملنا على تصحيح الخطأ وهذا كله يحتاج إلى سنوات طويلة وتضحيات كبيرة وكان علينا ان نعي قيمة النقد الذاتي قبل كل شيء ودون إنجاز النقد الذاتي بقوة لا نستطيع أن نجد الطريق لتصحيح الأخطاء..).
ويقول إنه كثيرا ما واجه مثل هذا السؤال في البلدان العربية: لقد ضربتكم الولايات المتحدة الأمريكية بالقنابل الذرية فلماذا تتعاملون معها؟ ويقول: (علينا نحن اليابانيين أن نعي أخطاءنا في الحرب العالمية الثانية أولا ثم أن نصحح هذه الاخطاء لأننا استعمرنا شعوبا آسيوية كثيرة ثانيا، وأخيراً علينا أن نتخلص من الاسباب التي أدت إلى القمع في اليابان وخارجها، إذن المشكلة ليست في أن نكره أمريكا أم لا، المشكلة في أن نعرف دورنا بصورة صحيحة ثم نمارس نقدا ذاتيا بلا مجاملة لأنفسنا بعدئذ نختار الطريق الذي يصحح الانحراف ويمنع تكراره في المستقبل.
ويقول ان الحرب العالمية الثانية قد انتهت وعمره خمس سنوات وانه شاهد الدمار الشامل وعانى من الحرمان والجوع وعرف أيضا نتائج مسيرة التصحيح..
بعدها وعندما بلغ الثلاثين من عمره وسافر للدول العربية ورأى وقرأ وتحدث إلى الناس قال: لقد عاينت بنفسي غياب العدالة الاجتماعية وتهميش المواطن وإذلاله وانتشار القمع بشكل لا يليق بالإنسان.. وغياب كل أنواع الحرية.. وعرف كيف يضحي المجتمع بالأفراد الموهوبين والمخلصين.. ورأى كيف يغلب على سلوك الناس عدم الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع وتجاه الوطن، ولذلك كانت ترافقني أسئلة بسيطة وصعبة: لماذا لا يستفيد العرب من تجاربهم؟ لماذا لا ينتقد العرب أخطاءهم؟ لماذا يكرر العرب الأخطاء نفسها؟ نحن نعرف أن تصحيح الأخطاء يحتاج إلى وقت قصير أو طويل، فلكل شيء وقت ولكن السؤال هو: كم يحتاج العرب من الوقت لكي يستفيدوا من تجاربهم ويصححوا أخطاءهم، ويضعوا أنفسهم على الطريق السليم؟).
ثم يبدأ يسرد علاقته بالوطن العربي من عام 1961م حيث اعلنت جامعة طوكيو عن افتتاح قسم للدراسات العربية.. فبدأ يتعلم اللغة.. وقد قرأ لنجيب محفوظ وغساني كنفاني.
وفي عام 1974م حصل على منحة خاصة من الحكومة المصرية للدراسة كطالب مستمع في جامعة القاهرة.. فقرأ رواية (الأرض) لعبدالرحمن الشرقاوي وهي التي دفعته للذهاب إلى الريف المصري حيث أقام بمحافظة الشرقية وفي قرية (الصحافة) بالتحديد وهناك تعرف على حياة الفلاحين وعاداتهم ووجد ضالته بجمال حمدان من خلال (شخصية مصر) ثم اتسعت دائرته مع الأدباء والروائيين المصريين مثل يوسف إدريس وصنع الله إبراهيم ويحيى الطاهر عبدالله ويحيى حقي وغيرهم..
بدأ في ترجمة بعض الروايات للغة اليابانية مبتدئاً برواية (الأرض) حيث صدرت باليابانية عام 1979م ورواية (الحرام) عام 1984م و(أرخص ليالي) عام 1980م و(تلك الرائحة) عام 1993م و(العسكري الأسود) عام 1990م.
وبدأ يهتم بالبادية في سورية وحضرموت وهو إذا يبحث عن معنى مختلف عما هو موجود في اليابان ومصر فيقول: في البادية وجدت ثقافة أخرى لا نعرفها في اليابان ببساطة لأن بيئتنا ليس فيها بادية، هكذا بدأت تجربتي بالإقامة مع البدو كما فعلت مصر وأقمت مع الفلاحين ولقد استقبلني (بنو خالد) بكرم يليق بهم خلال تلك الإقامة، كنت أبحث عن روايات تتحدث عن البدو وهكذا عرفت إنتاج عبدالسلام العجيلي وعبدالرحمن منيف خاصة (مدن الملح) وأخيرا وجدت إبراهيم الكوني الكاتب الليبي الذي ينتمي إلى الطوارق..).
وقال إن الكتابة بالعربية للعرب مقلقة ومرهقة ولكن محبته للثقافة العربية التي اعطاها عمره كله وجهده وعمله. إذن فلابد أن يشاركه القارئ العربي.. وهذا برأيه أرفع تقدير وأكبر محبة. وقال إنه يريد أن يقول للقارئ العربي رأياً في بعض مسائله كما رآها من الخارج كأي أجنبي عاش في البلدان العربية وقرأ الأدب العربي واهتم بالحياة اليومية في المدينة والريف والبادية.
وقال: إنه وجد نفسه مضطرا لأن يضيف بلغة صريحة مباشرة أنه يرى أن الحرية هي باب الإنتاج وباب التواصل والحياة النبيلة ولذلك يرى أن القمع داء عضال مقيم في الوطن العربي والعالم وما لم نتخلص منه فستفقد حياتنا كبشر الكثير من معانيها.
يقول إن علاقته بيوسف إدريس وثيقة وإنه قد زار اليابان عدة مرات، وأنه يبحث عن سر نهضة اليابان التي أدهشت العالم، ويريد أن يعرف الأسباب، وبعد زيارته الثالثة سألته: هل وجدت الإجابة؟ قال: نعم، عرفت السبب، مرة كنت عائداً إلى الفندق في وسط طوكيو حوالي منتصف الليل، ورأيت عاملاً يعمل وحيداً فوقفت أراقبه لم يكن معه أحد، ولم يكن يراقبه أحد ومع ذلك كان يعمل بجد ومثابرة كما لو ان العمل ملكه هو نفسه، عندئذ عرفت سبب نهوض اليابان، وهو شعور ذلك العامل بالمسؤولية النابعة من داخله بلا رقابة ولا قسر عندما يتصرف شعب بكامله مثل ذلك العامل فإن ذلك الشعب جدير بأن يحقق ما حققتموه في اليابان.

العرب بعيون يابانية صريحة!يوسف عبدالرحمن الذكير

لعل أهم ما يميز المستعرب الياباني (نوبوأكي هوتوهارا) عن كل من سبقه من عشرات المستشرفين الأوروبيين، يكمن في ثلاث ميزات:أولاها: تركيزه على الثقافة العربية المعاصرة، بشقيها: الأدبي وخاصة الروائي منه، والاجتماعي بكل ما يحويه من عادات ومعتقدات وتقاليد، دون أن يهتم بالجانب التاريخي، مثلما فعل العشرات من الأوروبيين، الذين كانت لهم اليد الطولى، لا في الكشف عن أسرار حضارات إهرامات وادي النيل، وسقارات وجنائن بابل المعلقة، وفك طلاسم الكتابات المسمارية والهيروغلوفية بكل ما حوته من ثقافات وقوانين، وحساب مواقيت وفلك وأساطير جلجامش وأورنس وأوزاريس، أو محاولات لفهم أسرار آثار مدائن صالح، ومقابر دلمون البحرين، ومعابد سبأ ومعين.. بل والفضل في حفظ وتحقيق ونشر العشرات من نفائس المخطوطات العربية الإسلامية المكنوزة في مكتبات متاحف لندن وباريس وليدن وبرلين ومدريد وهو فضل لم ينكره، بل وأشاد به المنصفون من أمثال علامة الجزيرة العربية الراحل، الشيخ حمد الجاسر رحمه الله.ثانيتها: إنه لم ينطلق من أفكار جاهزة مسبقة، مثلما انطلق معظم المستشرقين الأوروبيين، فجاءت كتاباتهم، إما مريضة باحتقان قرون من الصراعات والأحقاد، أو سقيمة بانتفاخ غرور عصور الاستعمار الأخير، فاتسمت معظم مؤلفاتهم بالأزدراء والاستعلاء، مما حدا بالكثيرين للتصدي لها من مخلتف الشرائح والانتماءات الإسلامية والعربية، إذ لم تقتصر الردود على أبرز علماء الدين الراحلين من أمثال الماوردي وإقبال والأفغاني وعبدالعزيز ابن باز رحمهم الله أجمعين، أو الحاضرين من أمثال القرضاوي والغنوشي، بل ولم تنحصر في مؤلفات رؤساء مسلمين من أمثال محمد خاتمي في كتابه (الدين والدولة) وعلي عزت بيجوفيتش في كتابه ( الإسلام بين الشرق والغرب) بل وتصدى لهم حتى المفكرون العرب من غير المسلمين، والذين قد يكون من أشهرهم، المصري أنور عبدالملك، والفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه الذائع الصيت (الاستشراق)، الذي أثار حفيظة المتطرفين المتصهينين إلى درجة أن استصدروا قانوناً يمنع مناقشة أعماله في بعض جامعات الغرب!!.فالمستعرب الياباني (نوتوهارا) بعيداً عن كل تلك الأمراض والأورام، بل إنه رفض كل ما قد يؤثر على موضوعية تقييمه وأحكامه، سواءً من أقرانه اليابانيين، الذين نصحوه أن ما من شيء يستحق الاهتمام بالأدب العربي، سوى الشعر الجاهلي في الماضي، ومؤلفات نجيب محفوظ في الحاضر، أو التأثر بكتابات الغربيين المناهضة للعرب والمسلمين!.. فيقول كم كنت مصيباً في رفض كل تلك الآراء المضللة، التي ثبت خطأها وسطحيتها، وهو ما يقود إلى الميزة الثالثة، والتي قد تكون أهم الميزات!.***الميزة الثالثة: تكمن في أن (نوتوهارا) لم يعتمد في دراسته وتقييمه للثقافة العربية المعاصرة على كتابات وآراء الآخرين، بل ولم يكتف برحلة استكشافية عابرة، وإنما اختار المعايشة والمتابعة الشخصية، فليس من رأى كمن سمع، ولا من عايش عن قرب، كمن قرأ عن بُعد!.. فقد كرس (نوتوهارا) أربعين عاماً من حياته في دراسة الأدب العربي المعاصر، وأمضى ما يقرب من ثلاثة عقود لم ينقطع طوالها عن زيارات سنوية للعالم العربي، عايش خلالها مختلف الشرائع الاجتماعية العربية.فقد بدأ اهتمامه بالأدب والثقافة العربية منذ عام 1961م، حين أعلنت جامعة طوكيو عن افتتاح قسم للدراسات العربية، فكان من أوائل الملتحقين به، ليغدو بعد أربع سنوات دراسية، أحد أول المعيدين في ذلك القسم، وما أن أثبت جدارته وشغفه وتفانيه في دراسة الأدب العربي من خلال ترجمته لروايات عربية معاصرة مختارها إلى اللغة اليابانية، حتى أرتقى لمرتبة استاذ زائر في جامعة (طوكاي)، مما أهله للحصول على منحة دراسية بجامعة القاهرة لمدة سنتين عام 1974م، كانت بمثابة بداية مرحلة المعايشة، التي لم تنقطع ولم تتقصر على مصر، بل زار العديد من البلدان العربية، هادفاً التعرف على مختلف المجتمعات العربية.. لم يكتف بقضاء شهور طويلة في أرياف مصر، لتعلم اللهجة المصرية بين فلاحي محافظة الشرقية، بعدما صعب عليه فهم حوار رواية (الأرض) لعبدالرحمن الشرقاوي، والتي أعجب بها إلى درجة أن قضى 3 سنوات في ترجمتها!.. بل وقضى شهوراً طوال في بادية الشام متعرفاً على بدورها ولهجاتهم، بعدما أطلع على مؤلفات أدباء الصحراء من أمثال عبدالسلام العجيلي، وإبراهيم الكوني، وعبدالرحمن منيف.. ليزور المغرب عقب اطلاعه على مؤلفات كبار كتابها من أمثال محمد براده وعبدالكبير الخطيبي، وعبدالجبار السحيمي، ليتجول بصحبة مبدع رواية (الخبز الحافي) محمد شكري، بين أحياء مراكش وطنجة وتطوان، مثلما تجول بين مقاهي وأزقة اللاذقية، بعدما أعجب بروايات (الياطر) و(الشراع والعاصفة) للكاتب السوري حنامينه.. فمن مزاياه الفريدة، أنه لا يكتفي بمعايشة أجواء ما يعجب من روايات الأدب العربي المعاصر، من خلال الصفحات والسطور، وأنما يتحمل المشاق والصعاب، ليعيش أجواءها في بيئتها الطبيعية.. بل ونراه في سبيل التعرف على مختلف سمات المجتمعات العربية، يمضي بلا وجل في رحلة استكشافية وعرة، ما بين جبال ووديان اليمن، فلا عجب أن جاءت دراسته عميقة الغور، جريئة النقد والانتقاد، مفعمة بمشاعر المشاركة الإنسانية الصادقة، جديرة بالقراءة لا من أبناء جلدته فحسب، بل ومن العرب ذاتهم، لما تكتنزه من رؤى وآراء صريحة لا يشوبها تزلف أو نفاق، ومعلومات أدبية بليغة ثرية، قد لا يعرفها معظم أبناء لغة الضاد، عن روايات أبدعها أدباؤهم المعاصرون، لا بسبب قلة اهتمام، ولكن لحجب وأستار، أقامها العرب بأنفسهم لأنفسهم، لتحجب عنهم أزهى إبداعات أدبائهم المعاصرين، فها هي تترجم لغيرهم، بل وتدرس في جامعاتهم!!.***لم يقتصر (نوتوهارا) في دراسته المتعمقة، على مشاهير الكتّاب المصريين، من أمثال نجيب محفوظ المعجب بثلاثيته أو يحيى حقي والشرقاوي الذي ترجم له روايته، بل وحتى يوسف إدريس الذي صنف أدبه، عالمي المستوى، فترجم له من المؤلفات أكثر مما ترجم لأديب أخرى، لينقل لقرائه اليابانيين، صورة واقعية معاصرة للمجتمع المصري بكل تشعباته الحضرية منها، والريفية والساحلية.. بل وربّما كان له الفضل الأكبر في إزالة الغشاوة عن عيون الشعب الياباني، فيما يخص مأساة فلسطين وتشريد الملايين من الشعب الفلسطيني، من خلال ترجمته لأبرز أعمال الأديب الفلسطيني الشهيد (غسان كناني)، وعلى رأسها روايته التي هزت وجدانه (عائد إلى حيفا)، فكانت إلى جانب ما ترجمه مستعربون يابانيون آخرون من روايات فلسطينية أخرى لا تقل إبداعاً، كالمتشائل لأميل حبيبي، و (رسالة لصديقي اليهودي) لإبراهيم الصوص، بمثابة عواصف أزاحت عتمة غمائم الأعلام الغربي المتصهين، ليرى الشعب الياباني بكل وضوح أبعاد ماساة، لم تقتصر على اغتصاب وطن الشعب الفلسطيني، بل وحاولت اغتصاب ثقافته وتاريخه.. فأتاح لشعبه رؤية الحقيقة المفزعة، والتي لم تنفع معها كل محاولات السفارة الإسرائيلية في طوكيو في محاولتها لاجتذاب كتاب اليابان من خلال الدعوات المجانية لزيارة إسرائيل، التي فشلت فشلاً ذريعاً، حين عاد أحد من لبى دعوتها من الصحفيين، مدافعاً عن القضية الفلسطينية، بعدما تأكد من زيف ادعاءات إسرائيل.معاناة الشعب الفلسطيني لم تكن المعاناة الوحيدة التي عرف بها الشعب الياباني، بل وترجم له معاناة العديد من الكتّاب العرب وما لقيه بعضهم من سجن وتشريد وتغريب، فلقد قرر على طلابه في السنتين الثالثة والرابعة في الجامعة، كتاب (رسائل السجن) لكاتب لا يكاد يعرفه أحد من بني العرب!.. ذلك هو الكاتب المغربي (عبداللطيف اللعبي)، الذي أودع كتابه المذكور أدق وأصدق ما ينتاب سجين مقهور، من مشاعر إنسانية وأفكار، ولم ينقذه من سجنه، سوى حملة دولية، لينضم إلى قوافل الأدباء العرب المغتربين في باريس من أمثال معلوف وأبو دهمان والطاهر بن جلون!.إلا أن صور المعاناة المختلفة، وما نقله من أنماط للمجتمع المصري للشعب الياباني من خلال ما ترجم لهم من مؤلفات، لم تكن هي كل ما أحرزه من إنجازات، فقد نقل طلابه إلى أجواء الصحراء الساحرة، لا من خلال إعجابه بالشخصية الرئيسية للجزء الأول من خماسية عبدالرحمن منيف الشهيرة (مدن الملح) المتمثلة في (متعب الهذال)، بل ومن خلال تدريسه طلابه، مؤلفات من اعتبره كاتب الصحراء الأول، الليبي (إبراهيم الكوني) الذي تجاوز ما ألف عن قبائل الطوارق البدوية 35 كتاباً، يزخر بالصفحات الرائعة عن عالم الصحراء، بل كا فيها من كثبان ورمال، ونخل وأثل ونوق وجمال، وكمأ وضبان وغزلان، وأساطير عن الأنس والجن والسعلاة!.ولكن اهتمام (نوتوهارا) بالثقافة العربية لم ينحصر ضمن الشق الأدبي منها، بل واهتم أيضاً بالشق الاجتماعي بكل تنوعاته الريفية والحضرية والصحراوية، ومن كل جوانبه التراثية منها، سواء ما يتعلق بالمعتقدات والتقاليد، أو الحالية فيما يتعلق بالممارسة والعادات وأزدواجية المعايير السلوكية، بل وقارنها بما يقابلها في المجتمع الياباني، بصور ما أشبه ما تكون ببحث ينتمي إلى علم الاجتماع المقارن!.***يتركز اهتمام (نوتوهارا) في دراسته للشق الاجتماعي من الثقافة العربية حول محورين، أولهما هو ما يفصل المجتمع الياباني عن المجتمع العربي من هوة واسعة!.. وثانيهما هو تشخيص ما يعتري المجتمع العربي من أمراض مزمنة، وما يمتاز به من تقاليد عريقة وشيم.. مما يجعله خير مرجع للمهتمين بالحوار ما بين الثقافات، لا فيما يتعلق بالتفاهم والتسامح ما بين الشعوب رغم ما يفصلها من فجوات ثقافية فحسب، وإنما لتبيان كيف ينظر الآخرون إلى مجتمعنا العربي بكل ما فيه من مساوئ ومحاسن.يبدأ (نوتوهارا) رسم ملامح الهوة السحيقة بالإشارة لما يفصل المجتمع الياباني عن نظيره العربي على صعيد المعتقدات، ففيما ديانة (الشنتو) الوضعية، لا تشير إلى الإيمان بإله واحد فرد صمد، ولا تعتقد أن كل من في الكون وما على الأرض إنما خلقه الله لخدمة الإنسان، بل ما هو سوى كائن ضمن وحدة الوجود، فلا حساب ولا عقاب ولا خلود في نعيم أو جحيم، فإن الإسلام كدين سماوي موحى من ربِّ العباد، وكخاتم ومتمم لأديان سماوية سبقته بآلاف السنين متجذر في النفوس المؤمنة بإله واحد.. ويشكل المحور الأساس في ثقافة وسلوك المجتمع العربي المسلم، إيمان أدهشه وهو يرى بدوياً يؤدي الصلوات الخمس بخشية وخشوع، رغم انقطاع المطر بسنوات، وما حاق به جراء انقطاعه من جدب وفاقة! وخشية من غضب الله، لجأ إليها هو ذاته، كلما خشي من غش بعض ضعاف النفوس، فما أن يذكِّر من يحاولغشه بغضب الله عليه، حتى يتراجع خوفاً من عقابه، إيمان عميق متين، كان مثار دهشته وإعجابه!.أما على الصعيد السياسي، فإن تلك الفجوة لا تتمثل في غياب حريات الرأي، والتعبير، والانتخاب عن معظم المجتمعات العربية، وحتى المنتمية منها لأنظمة جمهورية، مقارنة بحضورها وترسخها في المجتمع الياباني، بل هو يعجب من طول عمر الحكومات حتى في الأنظمة الجمهورية، مقارنة بأعمارها في اليابان، التي لا تتجاوز السنتين في معدلها!.. بل ويحمل تلك الظاهرة ما تعاني منه المجتمعات العربية من مشاعر الإحباط والانفصام، واستشراء التزلف والنفاق، وما نجم عنه من ازدواجية في السلوك والضوابط الأخلاقية وخاصة في المجتمعات الحضرية والريفية!.. ازدواجية يرى أن نجيب محفوظ عبر عنها بصدق من خلال شخصية أحمد عبدالجواد في ثلاثيته، فهو قد لمسها وعايشها على المستوى الفردي، حين رأى الاختلاف الشاسع في سلوكية أستاذ جامعي عربي انتدب للعمل في اليابان وما شاب نهج حياته من مجون، وانفلات أخلاقي، وما بين سلوكه حينما زاره في منزله في وطنه، في انضباطه ووقاره! وما رأه من قيام أحد الشعراء في مهرجانات مختلفة بتوبيخ وإلقاء قصائد المديح والثناء لمختلف الرؤساء على اختلافات أنظمتهم واتجاهاتهم السياسية!! وما شاهده من نفاق إبان معايشته للفلاحين في الأرياف فيما يظهرونه للسلطة والشرطة من احترام وإقامة للولائم، فيما هم يكرهونهم في الخفاء!.. بل هو يعزو ما يشاهده من تحطيم للممتلكات العامة سواء من قلع لمقاعد الحدائق، وخلع لسلال المهملات والقمائم، وتكسير لمصابيح الشوارع، كنوع من التنفيس، مما تعانيه المجتمعات العربية التي عايشها، من أمراض المنع والكبت والقمع المزمنة، بل هو يرثي لحال بعض الشعوب في الشوارع وهم يتلفتون في خوف، وكأنما هم ملاحقون!.. ولكنه على الجانب الآخر، يعجب أشد الإعجاب بما تمتع الشعوب العربية عامة من كرام الضيافة، مقارنة بالمجتمع الياباني المنطوي على نفسه، وعزوفه عن استضافة الأجانب، فالكرم المتأصل والذي يصفه بالنبل والشهامة، لا يقتصر على مجتمعات المدن بكل شرائحها الغنية منها، والفقيرة بل ويتجلى بأبهى صوره في المجتمعات الصحراوية، التي تتميز مثلما عاش وجرب بانفرادها من بين كل المجتمعات في أنها الوحيدة التي لا يختار فيها المضيف ضيوفه، فالبدوي في باديته يستضيف ويرحب بكل طارق وزائر.ويصل إعجابه أقصاه، فيما يتمتع به البدوي من خفر وحياء، من خلال من شاهده، حينما قدم البدوي فنجان القهوة لزوجته التي رافقته في إحدى زياراته للبلدية، فلاحظ أنه يقدم الفنجان وهو يدير رأسه وناظريه عنها، فما كان منه إلا أن تذكر بيتاً لعنترة بن شداد العبسي يقول:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها